السلسلة الثالثة من تفاصيل حياتي (معدلة)
يمنات
أحمد سيف حاشد
السلسلةُ الثالثة (معدّلة)
الواقعِ الذي كان
(1)
العودةُ من عدن إلى القرية
في طريق عودتنا إلى القرية ومغادرتنا عدن، كنت أشاهد عسكر الإنجليز في النقاط الأمنية يلبسون القمصان الكاكي، والسراويل القصيرة، وقبعات الرأس العسكرية، غير أن أكثر ما لفت نظري واهتمامي أن في كل نقطة عسكرية في اتجاه المغادرة نجد أحد الجنود يودعنا بتعظيم سلام، حيث يضع يده بثبات على محيّاه، ليحيِّنا بتحية مهابة ترفع من قدرنا ومقامنا، وكأننا قادة لا أناس عاديين وبسطاء.. يحيِّنا ونحن نمر أمامه وهو في وضع استعداد وانتباه وثبات، ويستمر بتأدية تلك التحية التي خصّنا بها “إجلالا ورفعة”، فيما رأسي الصغير يتسأل بتحفز وشغف..
كنت أسأل نفسي ببراءة طفل: هل يتحرّكون؟! هل يستمرون كما هم وقتا طولا؟! هل يأكلون ويشربون مثلنا؟! لماذا يفعلون هذا؟! تمنيت أن تتوقف سيارة (اللاندروفر) التي تُقلّنا وقتا طويلا أمام كل واحد منهم، لأراهم بإمعان، وأرى كم يستمرون على وضع (تعظيم سلام)، أريد أن أُملِئ عينيَّ من كل واحد منهم ساعات طوال.. ربما تبدو لي المفارقة اليوم أشبه بكائنات فضائية جاءت من السماء، فتثير فينا كثير من الغرابة والعجب والأسئلة..
***
ولكن التاريخ يكشف لنا أيضا وجه آخر للاحتلال غير ما ورد في هذه المشاهد التي مررت بها.. الاحتلال أحتل عدن بمبرر أقبح من ذنب.. حيلة أكبر من مكر ثعلب.. ويستمر بأعذار عدة، وحيل متكاثرة، ومكر مُشبع بالخبث والدهاء..
الاحتلال لم يأتِ من أجلنا، ولكن جاء من أجل مصالح وأطماع ساسة بلاده.. الوجه الحقيقي للاحتلال يمكن أن نلاحظها في جوهر هذا الاحتلال، وأطماعه التوسعية، وسياسة الإخضاع التي يتبعها، واللجوء إلى استخدام القوة والقسوة والتوحش حيال من يناهضه أو يقاومه، ولاسيما عندما تفشل سياساته الناعمة.. إنها سياسة العصا والجزرة.. إنها سياسة لطالما عشتها في وضع مقارب أو مشابه، بل لازلت أعيشها إلى اليوم.. سياسة لا تخلو من ابتزاز وإرغام.
ولكن لماذا تلك التحية غير المعتادة.. إنها تحية تنضح تقديرا واحتراما وعظمة.. لماذا تزجي مثل تلك التحية لنا ونحن أناس بسطاء وعاديين..؟! لعله يريد بهذا الوداع اللافت والجاذب للوجدان أن يترك انطباعاً حسناً لدى المغادرين إلى أرض الشمال.. إنها رسالة تكسر الصخر الصلد.. ربما المقصود منها التهيئة لاحتمالية التوسع شمالا في المستقبل، وخلق قدر من الرضى هناك بتعميم هذا الانطباع الآسر.. انطباع يخلق قدرا من الترحيب والقبول بالاحتلال في قادم الأيام، ولكن كان للثورة كلمة أخرى كان فيها الفصل والقرار.
وبين أمس واليوم عوالم وتحوّلات لم تكن تخطر ببال، وأكثر منه وجدنا في مراحل لاحقة احتلال غارق بالتخلف والبداوة والهمجية.. و وجدنا من أبناء جلدتنا سياسات أكثر غلظة وتوحش وقسوة، وهذا أيضا لا يعني أن أنامل وسياسات تلك الدول بعيدة عمّا يحدث اليوم، إن لم تكن راعية له، وتدير المشهد من بعيد بأياد أكثر خبثا وحقارة وخساسة..
***
عُدنا من عدن إلى قريتنا (شَرار) في (القبّيْطة) مثقلين بالحزن والفراق الطويل.. نمضغ بؤسنَا كماضغِ الملحِ والصّديد، جراحنا مفتوحةٌ وغائرة في النفوس.. عُدنا وقد نقصنا من عدد مجيئنا اثنين، وكُدت أكون الثالث في عدد كاد يوأد ثلثيه.
مؤسفٌ أنْ نعودَ وقد نقص من عدد أسرتنا الصغيرة اثنتين “نور وسامية” هنّ زهرات وجودنا.. يا لهول الخسارة!.. عُدنا ونحن نحمل حزنا ثقيلا وقليلا من المتاع، وتركْنا خلفنا ذكرياتٍ أليمة، وقبرين صغيرين، حصيلة “غربة” بدت لنا فادحة ومكلفة.
***
(2)
يشبهني “شَرار” مسقطُ رأسي
قريتنا كغيرها من القرى في وادي “شَرار” بالقبيطة تمضغ فقرها كلّ يومٍ ليل ونهار.. الخبزُ الجاف مع الشاي والحليب إن كثر، والعصيد و”الوَزِف” هي أهم وجباتنا التي أعتادت عليها بطوننا، وأبقتنا على قيدِ الحياة.. “الوزف” البروتين عالي الفائدة له علينا جميلا ومعروفا كبيرا لا ينكره منّا إلّا من جَحَد.. لَكَمْ نحن مدانون له بالبقاء والحياة!!
“شرار” ربما هو وادي أو محلّه أو قُرى متعبة على ضفتي الوادي المجرّف، وبيوت متناثرة على تخوم وظهر الجبال، ومدرّجات يعوزها جدول أو غيل، وتعتمد على المطر الذي لطالما خذلها في مواسم كثيرة..
“شرار” عندما ينقطع عليه المطر، تتم جباية المال من الحاجة والعوز لـ “صرّاف المطر”.. “شرار” لطالما خذلته المواسم وقلبت له الأقدار المجن.. لكم خانه الحظ، وعاودته الخيانة والنكد، وتلاشى الرجاء بدد، فأستغاث بإعانة “نامة” مطر، بعد يأس وانسداد..
وادي شَقِيّ كشقاء أبنائه.. يبحث عن مجدٍ وسطَ الحزنِ والسياسةِ، والخراب.. مملوءٌ بالفقر وأنفاس التمرد.. (شرار) كالشَّرق الّذي يبحث عن شروق، ولازال الشروق عنه ناءٍ وبعيد.. لا أدري لماذا كان اسم الوادي (شرار)، هل من شرشرة الوادي، أم من شرار النار، أم من بؤس حظ معجون بالتعاسة..
ثمّة حكاية تُروَى أنّه عاثرُ الحظّ وكثيرُ القنوع.. كم أنا من “شرار”!!
حكايته تقول: عندما قسَّم الله البساتين والحدائق على الوديان سأل (وادي شَرار) عمّا إذا كان يريد بستانا أو حديقة، فأجابه إجابة قنوعة: (إن زاد وإلا ما أشتيش) فلم يزِدْ لوادي شرار بستان أو حديقة، أو هكذا جاء في الحكاية.. “شرار” لطالما عانى ضيق وحرمان، وأفتقر لحديقة وبستان، وضاعف النزاف محنته وخيبته، وربما هو ليس بكل ذلك السوء..
(شرار) القَنُوع الذي يرى البعضُ أنّه خَذلَ رجاءنا قبل مجيئنا، ولازال قنوعا إلى اليوم، ولا زلنا نحن مسكونين بلعنة قناعته الّتي عشقناها، ولم نترك عشقها حتى وإن طوانا الجوع وبرئ عظمنا وسَقُم الجسد..
لازلنا بالقناعة نعتزُّ ونفتخر، ولم تجفُلْ هينّا ولم تنتهِ، وما زلنا مسكونين بالمثل: “القناعة كنز لا يفنى” القناعة كنزٌ يدوم.. “شرار” وادٍ وقرى، ومسقط رأسي الذي بتُّ لا أقوى على حمله، أو المساعدة في التخفيف عنه.. “شرار” يشبهني أو أشبهه في بعض من هذه وتلك.
***
(3)
من هذا الواقع أتيت.. فقر وبؤس..!
سكانُ أريافنا فقراءُ على العموم، وبعضهم مُعدمون، يعيشون شظف العيش وبؤس الحال وكُثر المحال.. يكابدون ويكدحون من فجر الله حتى مغيب الشمس، من أجل لقمة عيش كريمة يكسبونها بكدهم وعرق الجبين.. لقمة العيش في جبالنا صعبة المنال تُدمي القلوبَ والأظافر.
جبالنا وعِرةٌ وشامخة، وطينها قليل وعزيز.. الأشجار تغالب الحمأ والظمأ، وجذور السِّدر والعوسج و”العسَق” تشق لها طريقا صبورا ومتحديا الصخر والجبل.. إنه الصراع مع أقدارها وتحديها المستميت والمنتصر..
الزراعة موسميّة، وأغلب المواسم “تَخيب ولا تصيب”.. كثير من السُّحب كاذبة، وإن بَدَتْ وكأنها مثقلة بالغيث الغزير، ثمَّ تكتشفُ بعد فترة لا تطول أنّها خادعة لا تحمل غيثا ولا مطرا.. مقالب الأقدار كثيرة؛ قليلة هي المواسم الّتي أوفَتْ وجادت بالغيث من موعد البَذْر حتى موعد الحصاد..
أيام النزاف الماء شحيحٌ.. النّسوة يخُضنَ معاركَ ضروسةً ولساعاتٍ طوال؛ من أجل جلب الماء من أمكنة بعيدة.. المرأة تقضي -أحيانا- ثُلثَ نهار أو ربع ليلٍ؛ لتظفر بدبّة ماءٍ واحدةٍ لا يزيد سعتها عن عشرين لتر.. النِّساءُ لا يظفَرنَ بالماء أيام النّزاف إلّا وقد بلغت قلوبُهنَّ الحناجر..
كان الجوع يعصر البطون، وحزام الفاقة يضعون تحته حجرا، وسوء التّغذيةِ رفيقٌ حميم، والموت طليقٌ يخطَف مَن يشتهي، وأغلب من يخطفهم الموتُ ويشتهيهم أطفالٌ وصبية، وشبابٌ بعمر الزّهور.. في مناطقنا لطالما اجتمعت علينا المخافات الثلاث؛ فقرٌ ومرضٌ وجهل، وزائد عليهن كُربة..
أيّامُ عيدِ الفِطر وعيدِ الأضحى هي أيّام فرح العام، وقلّما يجد الفرح متّسعا في غيرها.. أغلب الناس يشترون الثياب الجديدة، مرة واحدة في السنة، يلبسونها أيام عيد الفطر ثمّ يحتفظون بها لعيد الأضحى؛ ليرموا “عصفورين بحجر واحدة” كما ورد في المثل.. قليلون هم أولئك الذين بمقدورهم شراء الملابس مرتين في العام.. الثياب المشتراة متواضعة ثمنا وجودة، ولا نتابع نوعا أو “ماركة”..
في أريافنا، كان الصراع مريرا من أجل الحياة.. الحرمان يشبهنا وهو موطننا وفيه نقيم، لا يغيب ولا يُغتاب، ولا يفارق، لكأنه رفيق حميم، أمّا النادرُ فلا حكم له.. أغلب النّاس يأكلون لحم الماشية في عيد الأضحى، وقلة هم من يستطيع أن يأكل لحم الضًّأن في العام مرتين؛ وربما يتذوقونه في مولد أو موت أو ولادة.. وإن رُمت لأكل صدر دجاجة في غير أيام الفرح، فما عليك إلّا مُلازمةُ المرض، وحنون يحبُّك ويهتمُّ بِك.
***
أمَّا أنا فكان لا يروقُني أن تُذبح من أجلي ديك أو دجاجةً، وربما كابرت يوما وأمتنعت وأمعنت بالتحدي، وقلت حتى وإن بلغت “الصفراء” رأسي، وبلغ السلُّ مخَّ العظام.. كان وجداني حساسا وكنتُ في وجداني غريق، لا أريد أن أكون سببا في إقصار عمر أو إزهاق روح..
لطالما أحجمت على ما أشتهي؛ لأطيل عمر ديك أو دجاجة، وأشعر بسعادة هذا البقاء الذي أحجمُ قدر ما أستطيع من التورط في وضع نهاية لحياة يمكنها أن تطول، ولطالما أحسست بهذا الشعور الكثيف..
ولكن أبتكرت أمي طريقة، أو لعلها نقلتها، أو تذكرتها، أو استدراج وترغيب في مغالبة رفضي لذبح ديك أو دجاجة، فتخبرني أنها إذا ذبحت ديك أو دجاجة تستطيع أن ترى من الذي سيموت قريبا، وذلك من خلال معاينة ثقب في عظمة صدر الديك أو الدجاجة، والتي ستخبرنا إن كان الميت القادم صغيرا أو كبيرا.. فنظل نترقب من سيموت في القريب.
وأيضا كانت أمي تعاين عظمة الصدر فإن كان يميل إلى الحُمرة فتقول أنه سيحدث مطر في الأيام القليلة القادمة.. وكانت تفعل الشيء نفسه عندما تكون الذبيحة “ماشية” من خلال عظمة في الذبيحة نسميها “المكحفة”.. أذكر إن يوما أخبرتنا أن واحد كبير وعظيم سيموت، فمات الرئيس جمال عبدالناصر بعد أيام أو أسابيع قليلة وكنا نحبه كثيرا..
كانت أسرتنا كبيرة فيجري توزيع لحم الديك أو الدجاجة بين أخوتي وأبي وتخصني بصدر الدجاجة أو بأكثره.. فتقول أمي الجخجوخ للشيبة الملدوخ، والرقبة لصاحب العتبة، والجناح للولد الطماح، ولم أعد أذكر البقية وهو الصدر الذي نسميه “السكاب” والأرجل والرأس، ولكن كانت تخص أبي بالجخجوخ وربما تضيف إليه شيئا آخر..
***
وعندما شببت وكبرت وفكرت أدركت أن تغيير الوعي أمر صعب ومعقد ويحتاج للكثير، وأن تغيير واقع كهذا يفوق قدرتي، وليس بإمكاني أن أرسي قوانيني في عالم يعج بالفوضى والعبث، وعادات وأعراف وتقاليد ثقيلة تأصلت في مجتمع لآلاف السنين..
من هذا المجتمع ومن هذا الواقع الصعب أتيت.. مجتمع أتيت إليه مُرغما أو مرتابا غير مختار.. مجتمع يحتاج إلى ألف معجزة وألف سنة ليكون على النحو الذي أحلم.. أحلم بعالم آخر غير متحقق، وغير مقدور على الوجود..
***
(4)
أمِّي وهي تشكِّلُ وجدانَنَا
كانت أُمّي تَحكي لنا ـ أنا واخوتي ـ الحكايات الآسرة.. كُنّا وهي تحكي نتابع سردَها كلمة كلمة، منقادين بعد حديثها كمسحورين.. مشدودون إليها بدون وثاق.. وفي كل حبْكةٍ ومُنعطَفٍ في الحكايةِ نتطلَّع شغفُنا لمعرفة المزيد، حتى تصل في سَرْد الحكاية إلى محطتِها الأخيرة، ونهايتها المرجوة..
كان تعلُّقنا لا يَنْفَكُّ عن حديثها قبل أنْ تضعَ الحكايةُ نهايتَها السعيدة، والّتي ينتصر فيها الحقُّ على الباطل، والعدلُ على الظُّلم.. نتابع إيقاعها ونحبسُ أنفاسنا حتى نبلغ الذروة.. نندمج معها ونعيش أحاداثها، ونتابع اشتداد الصِّراع فيها بين الخير والشرّ المُحتدم.. نؤْثِر الخير ومعه نحشُد عواطفنا الجيَّاشة طوال سردها حتى تنتهي بانتصاره المفرح والبهيج بعد كرّ وفرّ ومغالبة.. إنها حكايات تستحق منا تلك المتابعة والتذوّق والإندماج..
كان وجداننا مُرهفا، وعقولنا طريَّة، ومُستقبلاتُ وعينا حساسةً ولاقطة.. كانت تلك الحكايات تجعل الخير زاهيا وأخَّاذا، فتنميه في وجداننا، وتدعونا للانحياز له، وتحثنا على فعله، ومن جانب آخر تنمّي كراهيتنا ضدّ الظُلم والباطل والشرور، وتحثُّنا على مقاومتهم والاستبسال في مواجهتهم دون يأس أو استسلام..
كانت تهذّب أخلاقنا وترعيها يوما بيوم.. تنمّي عواطفنا وسويتنا.. تؤنسُنَا وتنمِّي مشاعرنا الجميلة وأحاسيسنا المُرهفَة.. أنا بعض منك يا أمي، ما زلتُ إلى اليوم كما كُنتِ ترجين وتتمنين.. أقارعُ الظَّلم والشُّرور، وأنتصر للخير والناس الطيبين والمتعبين المكدودين، أو هذا ما أظنُّ أنَّني أفعله يا أُمّاه..
ما تحكيه لنا أمّي كان سوَّيا إلى حدٍّ بعيد.. جاذبا لنا، ومؤثرا في وجداننا، ووقْعُه بالغا في نفوسنا.. كانت تنبشُ حكاياتِها من التُّراث المُتداوَل والوعي الشعبي المنقول والمُتناقَل شفاهه..
من الحكايات الَّتي روتْها لنا قبلَ أكثر من خمسين عام في مساءاتنا وليالينا الدَّامسات والمقمرات: الحُميد بن منصور، وعبد الرحيم، وحمامة المراميد ،والعجوز الكاهنة، و“الجرجوف”، والذِّئبة، وأبو نواس، والسبعة الإخوان..
كنّا نُنصت ونتسمَّر أمامها وهي تحكي، وكأنها بوذا ونحن تلاميذه.. كنتُ غالبا أعيش المشهد الّذي تحكيه كما هو.. ربما أتقمَّصُ في نفسي وأنا استمع شخصية أحد أبطال الحكاية الخيرين.. أعيش الدور حتى يبلغ ذروته.. أنحاز إليه وأتقمصه واتماهي في شخصيته.. أتفاعل مع انفعالاته وإيقاعاته.. أتابعُها كما يُتابع الجدول مجراه.. أتُوقُ للنِّهايةِ لترتاح نفسي، وأبتهج، وأنام بعدها بهدوء وسكينة..
كانت تتسلَّلُ الدُّموعُ من عيوني، وتَسيحُ بصمتٍ على خُدودي، ويَعلق بعضها في شفتي، أشعر بسخونتها وأطعم ملوحتها، أعرف دموعي كما أعرف نفسي، وكان لليل فضيلته؛ لأنه يسترها ويواريها عن أمي وأخوتي، كما كان لأسلوب أمّي السردي الجاذب فضله الآخر، حيث كان يشدُّ انتباه أخوتي بحيث تمنع تطفلهم على عيوني ودموعي، وانفعالاتي المكبوحة..
تفاجأتُ بعدها في شبابي أنّ بعض تلك الحكاياتِ مدوَّن في كتاب “حكايات وأساطير يمانيَّة” للكاتب “علي محمد عبده”، وعند المقارنة وجدت في حكاية أمي بعض الزِّيادة والإضافات، لربّما جاءت بها من خيالها، أو أضافها خيال من تلقَّت عنه قبلها..
***
كما كانت أمي تحدِّثنا عن الله وعن محمد وعلي والملائكة، وكل ما تلقته من أبيها الزاهد والولوع بقراءة القرآن.. كان يحدّثها عن قَصص القرآن وبعض تعاليمه وتفسيراته.. كانت تستهويني قصةَ مريم وابنها عيسى، ومعجزات هذا النّبي الّذي علِقتْ بعض من سيرتُه المؤثِّرة في ذهني إلى اليوم..
وعندما كبرتُ تفهَّمتُ لماذا قال المسيحُ – وهو يعاني من سكرات الموت عند صلبه – “ربِّي لماذا تركتني؟!”.. وتأثرت بتلك العبارة الخالدة له “من ليس له خطيئة فلْيرمِها بحَجَر”.. تعاطفت مع من فقد أبيه.. أرأفُ باللُّقطَاء الّذين لا ذنبَ لهم.. أنحازُ للضَّحايا أيٍّ كانوا.. أتفهمُ الأخطاء وما تجنيه الحياة على الإنسان..
فهمتُ معنى أنْ يعيشَ ويموت الإنسانُ مظلوما، أو مقاوما للظُّلم والسُّلطة المستبدة.. عرفتُ ما وصل إليه المسيحُ من مجدٍ وخلودٍ بعد موته أو بعد “العُرج به”.. غير أنّني حزنتُ أكثر عندما تمّ استغلال اسمه واستثمار دمه من قبل بعض الممالك والإمبراطوريات المستبدّة، والأوغاد الّذين حكموها، وكيف تمّ قهر الشعوب واحتلالها، واستغلالها تحت مسماه، وكيف صارت المسيحيّة جحيما ومحارقا يُلقى فيها أحرارُ الفكر والعلماء، والمتنورين!!
***
كانت أمي أيضا تُحدثنا أنّ الله يرانا أينما كنّا، وأنّ لكلٍّ منَّا مَلكين، أحدُهما في يمينك يكتب حسناتك والآخر في يسارك يكتب السيئات.. كنت أكثر ما أذكر هذا بخلوتي في “الحمّام” عند قضاء الحاجة، أو ممارسة العادة السرية، والتي كانت أمي تحذرني منها، وتقول لي أن يدي ستأتي حاملة ومتورمة بحملها يوم القيامة.. وظل هذا الأمر عالقا في ذهني، شديد الحضور حتى بعد البلوغ..
ورغم تحذيرات أمي لم أكثرت، حيث أوغلت فيها وأعتدتها وربما أدمنتها طويلا.. كلما قررت بعد ارتكابها أنني سأقلع عنها للأبد، وجدت نفسي أعود إليها بعد حين غير بعيد باشتاق واشتهاء أكبر وأكثر من سابقه.
“والشيء بالشيء يُذكر” فقد تذكّرت هذا وأنا أقرأ رواية الخلود لـ”ميلان كونديرا” وفيها أنّ الأم المؤمنة كانت تحث ابنتها على قلع بعض العادات الّتي التصقت بها حيث كانت الأم تقول لابنتها: “الرّب يراك” آمله بذلك أن تنتزع منها عادة الكذب، وعادة قضم الأظافر، وإدخال أصابعها في خياشيمها، فيما حدث العكس، وهو الذي كان يحصل.. لم تكن تتخيل الرّب تحديدا، إلّا في هذه اللحظات التي كانت تمارس فيها عادتها السيئة، أو في لحظات خزيها..
أنا أيضا كنت أذكر الرب حالما أفعل ما حذرتني منه.. أمارس العادة وأعاودها رغم رقابته وأشعر عقبها بالخيبة والندم الأشد، ثم أوعد نفسي وربي أن تكون المرة الأخيرة، ولكني أعود إليها أكثر اشتياقا واشتهاء ولذة..
***
كانت أمّي أيضا تحذرنا كثيرا من شرب الخمر، وتَشُنُّ عليه وعلى شاربه، وحامله، وبايعه، حملة غاضبة أكثر من غضب الرب.. كراهية لا أدري من أين تسلّلت إليها، ولم تكن تعلم أنّ ابنها بعد خمسين عام سوف “يهشتج” “شلّة الملابيق لا تسكر بالدم” ردا على استهدافه هو ورفاقه، واحتجاجا على سوء الأوضاع، وعلى الدَّم الّذي يُكرع ويُسفك بجنون غير مسبوق، بعد أن وجدنا الحياة التي يُفترض أن تكون أفضل قد باتت أكثر من بائسة، والرأس الذي حرصنا عليه من الرشح والصداع، قد بات هو الأخر بخسا أو دون قيمة، يُزهق أو يُفجر برصاصة ربما تأتيك من بائس أمّيِّ الفكرِ والثقافةِ، وربّما ممّن لا يجيد القراءة والكتابة، فيما الأوغاد يديرون المشهد من بُعدهم الآمن والمحصّن..
***
(5)
أجددانا القراب من حضرموت
قُرانا متناثرةٌ حولَ الوديان وعلى ظهور الجبال العالية.. البعض حاول يعتلي أكثر، وبعضهم مال إلى الاقتراب من الأودية.. قُرانا مُتعِبةٌ مثلَ رجالها ونسائها وأطفالها.. كيف جئنا إلى هنا؟! ومن أين جئنا؟! وكيف وصلها أجدادنا، قبل مئات السنين؟!
قالوا إنّ جدَّنا جاء من حضرموت إلى هذه المناطق من “القبيطة” قبلَ أكثرِ من ثلاثمائة عام، ويدعونه بـ “الشَّيخ حِيى”، وبرفقته عمّه “الشَّيخ أحمد” ومعهما عبدا أو أكثر، ولا ندري إن وُجِد في صحبتهم رجالٌ آخرون، ولا نعلم إن كان لحوّاء معهم وجود، أو كانت هي من ضمن الوافدين..
اقترن الاسمان بلقبِ الشّيخ، ويبدو أنَّ سببه يرجع إلى المكانة الاجتماعية والدّينية الخاصة بهما.. كانت أمّي تنتسب إلى “الشيخ حيى”، فيما أبي ينتسب إلى الشيخ أحمد.. الملاحظ أنّ الاهتمام بمزار “الشيخ حيى” أكثر من الاهتمام بمزار “الشيخ أحمد” وقد لفَحْتُ بأمر أمي وتشجيعها من تراب قبر جدِّها، ولم ألفَحْ من تراب قبر جدّي من أبي.، ولنا في المقام لاحقٌ وتفصيل..
غير أنّ السؤال: ما الذي دفع أولئك الأجداد أن يتركوا عِزَّ حضرموت وأهلها الطيبين، ويأتون إلى هذه المنطقة النائية البعيدة، صعبة المراس، أو التي لا تخلوا من وعُورةٍ باديةٍ للعيان، وربّما أيضا خالية أو قليلة السكان؟! كيف يتركون حضرموت، ويتجاوزون مئات الأمكنة، في طريق يمتدُّ قُرابة الألف ميل، ليستقرَّ بهم الحال والترحال في منطقة نائية قصيّة ومجهولة، ليس فيها ما يجذب أو يُغري، أو يستحقُّ المغامرة..؟!
ما الّذي دفع أولئك الأجداد أن يتركوا حضرموت أرضا وبحرا، وسهولا وشواطئا، وسكانا، ويعبرون في رحلتهم الطويلة تنوعات بيئيَّةٍ وسكانية كثيرة ومتعددة بعضها جاذب أكثر من هذه المناطق التي حطوا الرِّحال فيها؟! كيف عبروا مسافة ربما يستغرق قطعها على الراحلة شهورا طويلة، لينتهي بهم المطاف في مناطق نائية بعيدة جدا عن أهلهم وذويهم، وتكون هي المستقرُّ الّذي حطوا رحالهم فيه، وبنوا مساكنهم على ظهور جبالها العالية ثم مالوا للإنخفاض؟!
سألتُ أمي يوما عن السبب! فأجابتني بسماعها أنهم جاءوا من حضرموت إلى هذه المنطقة، يبحثون عن فتوى!! فزادني قولها عجبا!! مناطقنا ليس فيها شيوخ، ولم تشتهر بعلم أو بفتوى، وليس فيها كثيرٌ من النَّاس في تلك الأيام، بل ربما أنّ قرودها كانوا أكثر من ناسها، أو الساكنين فيها.. هل أتوا ليعلموا أبناء تلك المناطق التي قدموا إليها على قلتهم بعض العلوم من شرع وفقه ومواريث؟!! ربما.
هل هناك أسبابٌ سياسيّة واجتماعية، أو أعمالُ قمعٍ وملاحقة سلطات، أو وجود اضطرابات وعدم استقرار، أو ما شابه ذلك من الأسباب التي حملتهم على مغادرة حضرموت، والتوجُّه بعيدا عنها إلى مناطق قصيّةٍ وحصينة، أو عصيّة على من كان يفكِّر بالملاحقة أو فرض سلطته عليهم؟!! هل كان وراء اختيار هذه المناطق؛ لتكون موطنا للقادمين إليها، لما توفَّره لهم من أمن وسلام، وحماية؟!! أم أنّ مناطقنا كانت قبل 300 عام مروجا خضراء وأحراشا، وغيولا، وماءً وفيرا جذبت الباحثين عن عيش وحياة أفضل في اختيار من حطوا الرِّحال فيها..؟!!
إنها أسئلة تحتاج إلى بحث للوصول إلى الحقيقة أو إلى الإجابة أو مقاربة لما حدث..
***
(6)
مزار الشيخين
“الشيخ حيى” أو الشيخ “يحيى” يوجد له ضريحٌ على تلة أو جبل صغير في وادي صبيح، والضريح محروسٌ بغرفةٍ وقُبًّتين يجري طليها بالنُّورة البيضاء قبل موعد “المولِد” بأيّام، ويتمُّ تجديد طِلاءِ القُبَّتين وغرفة الضريح في الموعد المقرر من العام الذي يليه، وكان طلاء النُّورة يجعل للمكان جلالا وهيبة، وتستطيع نصاعة بياضها أن تؤنسك وتُشعرك أنّك لست وحدك.. تتطلع إلى المقام بناطريك، فيبدو المقام مُهابا وآسرا في ليل كان أو نهار.. تسمع هناك من يقول لبصرك بصوت جهور: قف قليلا.. هناك ما يستحقُّ الوقوف.
عندما يقترب موعِد مولد “الشيخ حيى” يتمُّ النداء إليه، ويُسمَّى “التّطريب” وهو إعلان موعده والذي يجري في يوم وسُوق الخميس، ويتمُّ من مكانٍ مرتفعٍ في السُّوق، وُيستهلُّ الإعلان بعبارة “الحاضر يعلم الغائب..” ما أتذكّرُه من زمان طفولتي أنَّني كُنت انتظر مرور العام طويلا.. أشتاق لحضور هذا المولد بحرارة كلِّ جوارحي.. شوق طفولتي يتأجَّج على نحوٍ لا نظير له.. حضوري إلى ما أشتاق إليه يغمرني بشلّالٍ من سعادة لا وصف له ولا مثيل..
كان المولد أشبه بكرنفال بهيج، يحضره جمعٌ غفيرٌ من النّاس، والسّعادة تحجز للأطفال المكان الذي يليق بسعادة وذكريات عصيّة على النِّسيان.. في المولد كان يبدو لي الجبل الذي فيه الولِيّ أو المقام زهيّا مثل شجرة ميلادٍ تُلُّونُها الأضواءُ الزّاهية.. ترى الجبل وكأنّه مُغطَّى بمَحارٍ وأصدافٍ، ولؤلؤٍ، ونجومِ بحر.. زاهي بالحضور والألبسة الملوّنة.. البيارق ترفرف عاليا في أكثر من تجمُّعٍ ومكان، وبعضها يتمُّ حملها عند صعود الزاوية إلى رَدْهَةِ المكان في الجبل.. وبيارق تُغطِّي الضريح، فيبدو مكللا بالمهابة والوقار، كملِكٍ يوم اعتراش وتتويج مُلكه.. وترى المسرات تغمُر وجوهَ كلِّ من حضر..
أسفل الجبل يجتمَع القوم، وشجرتي “الحُمر” الضخمة والوارفة تنشر ظلَّها على الجميع.. وهناك ضريح “الشيخ أحمد” في الجوار القريب، وصخَبُ الحياةِ والبيعِ، والشراء في أعِنَّته.. الحياةُ هنا مشرقةٌ ودافقةُ.. صاخبة بعد عام من السُّكون.. تشعر أنَّ هذا اليومَ يحتفل به الجميعُ أحياءً وأمواتا.. تُذبحُ الذَّبائح، ويتناول الناس وجبة الغذاء، ولا يغادرون قبل أن ينفضَّ الجمعُ للمغادرة..
وفي عصر اليوم أو قبله بقليل يحتشد الجمع في أسفل الجبل؛ ليقيموا الزاوية، ويبدأ السير والصُّعودُ نحوَ مقام “الشيخ حي” في تلّة الجبل.. يتحرك الجمعُ رويدا رويدا وهم ينبضون ويفيضون بالنور، والجمع أبهى من ألف عريس.. وما يفعله المجاذيب يأسرُ طفولتك بما لا يُنسى من العجب..
ما زلت أذكر المجذوب هنا، وهو يبدأ في الارتعاش.. أخرج جنبيته من غِمدها، وبدأ يضع رأسها في راحة يده اليسرى ويُمناه قابضة على مِقْبضِها.. مائلها ومائل يديه مرتين وثلاث على زاوية من عينيه، وكأنَّه يبحث في لمعانها عن شفرة أو سرٍّ ينتظر موعدَه أو تدفقه..
قالوا: إنَّه يبحث وينتظر الشَّارة الّتي تأذن له في الدّخول إلى غَمرة “الجذب”.. بدأ يهتزُّ كغصنٍ في وجه الرِّيح، أو شجرةِ كافورٍ في وجه عاصفة.. ثمّ يجثو على ركبتيه، ويضرب بحد الجنبية كتفيه الأيمن والأيسر، دون أن نرى دما أو أثرا.. يعيد وضعية جثوه على أطراف أصابع قدميه متحفزا، ويُهيل الضَّربات على سرفتيه.. يطعن بطنه بضربات متلاحقة، ولا يترك أثرا على جسمه رغم كل ما فعل.. لم يترك أثرا غير حيرةٍ ودهشةٍ تَكسي وجوهَ طفولتنا الباكرة.. ثمّ يعود ويفوق من غَمْرتِه، ويخرج من نَوْبَة حالته، ويعود إلى طبيعته ولا كأنّ أمرا خارقا قد حدث.. ما أجمل تلك الأيام القليلة! وما أجمل الطفولة فيها! وكلاهما قطعا لن يعودا..
***
(7)
أكْل التراب
كان يشاركني بأكلَ التراب في صِغَري ابن عمّي (سالم أحمد محمد هاشم)، والذي يكبرُني بعشرة أشهر تقريبا.. شهيتنا لأكل التراب تعود إلى سوء تّغذية عشناهُ معاً.. التغذية السيئة كانت بعض منّا.. رافقت طفولتنا البائسة يوما بيوم، وأدركت بعض من مراهقتي وشبابي الأول.. لطالما أعيتني، وأثقلت كاهلي، ولازمتني حتى بداية التحاقي في الكلية العسكرية..
مرت عقود طوال دون أن أعلم حقيقة دافعي لأكل التراب في طفولتي الباكرة تلك، غير طعمه المستساغ واللذيذ، واستمتاعي به حال تعاطيه.. ربما أرجعت تلك الحالة أو بعضها إلى صغر السن وإنعدام فهم الضرر، أو عدم القدرة على التمييز.. وربما أرجعت بعضها إلى عناد الصبية وردود أفعالهم حيال العقاب، أو بدافع الجهل والفضول الذي حوله المنع إلى اجترار واعتياد لا يخلو من لذة ومتعة..
لقد كانت خلوتي مع التراب ممتعة جدا، ولكنها لا تخلوا من عقاب أكيد حتى وإن تأخر أحيانا.. كان بقايا التراب المعجون بلعابي في فمي ومحيطه يفضح فعلتي دون مواربة.. وبعد أكثر من خمسين عام قرأت أن سبب أكل الطفل للتراب يرجع إلى نقصِ مادةِ الحديد في جسمه..
تأكل التُّراب بسبب سوءِ التّغذية، ونقصِ عُنصرِ الحديد الّذي يحتاج له بدنُك، ثم تُعاقَبُ بالضرب لسببٍ خارجٍ عن إرادتك، وربّما تُضربُ بالحديد لأنّ جسمك ينقصه عنصرُ الحديد، ويلحقك مزيدا من العذاب، وتسكنك العُقد، وتظل تكبر داخلك وأعماق نفسك في الوعي واللاوعي، وربما تشهد اضطرابات وانحرافات سلوكية لاحقة تضر بك وبغيرك، وتغيب عدالة الأرض عنك، وتتأخر عدالة السماء إلى “يوم الحساب”.
لقد أكلتُ التراب في عمر الطفولة الأولى.. كنتُ ضحيةً لظروفي منذ نعومة أظافري.. ضحية للسلطة، والجهل، والقمع، والتنشئة الخاطئة.. ضحية الفقر والحاجة والعوز.. ضحية الواقع الذي تشاركت كثير من العوامل في إنتاجه وصناعته..
غير أن ما يؤسف له اليوم، وأنا أعيش عقدي الخامس أو أرحل منه نحو الستين أن هناك من يريد بل ويصرُّ أن يُبقيني أسير عوزي وحاجتي.. من يريدني أن أكلُ التراب بقية حياتي.. من يريد أن أعيش ضحيةً إلى آخر العمر، مهموما بنفسي، وغارقا في تفاصيل حياتي اليوميَّة، ومثقلا بمعاناتي الثقيلة..
هنا من يريدني أنا وغيري أن نظل مشغولين عن فساد السُّلطة وانتهاكاتها، والحيلولة دون الدفاع عن حقوق وحريات النَّاس، بل وأيضا يحاول قلع الأظافر الدامية التي تحاول الحفر في الصخر، وأكثر منه الذي يتمنَّى أن لا نستطيع حتى التنفُّس الذي يحسدونا وينفسونا عليه.. إنه عهد وحشي ما كان بحسبان..
***
في طفولتي الأولى كانت أمّي في الوقت الذي تضربني لأكلي التراب، أجدها في مناسبة أخرى تدعيني وعلى نحو لحوح لأكل التراب.. عجب ومفارقة وحيرة، وبينهن طفولة معذبة وبائسة، ومثقلة بالجهل والحرمان الأشد..
كانت أمّي تصحبُني معها في بعضِ الأيَّام، وهي تزور قبر جَدِّها “الشيخ حيى”، وكان يشمل المكان مقامه وغرفته، وقبتيه، وبعض الملاحق.. كانت أمي تحمل الشَّمع الّذي شرطته وأنذرته من أجلنا لجَدِّها، وتسرِّج بها ظلمته، فيما تضع بعض رُزَم الشّمع الغير مستخدم في كوّةِ الغرفةِ أو على حافةِ القبر؛ لمن يأتي في يوم آخر ليضيء ظلمة جدنا “الشيخ حي” وتفعل أمي مثل هذا أيضا، مع قبر ومقام جَدِّنا الشيخ أحمد القريب منه والذي كان قبره ربما بارتفاع ذراع في حجرة متواضعة، وسقف مستوي غير متوّج بقبة..
رأيت أمي تُسرِّج مقام جدنا “الشيخ حي” بالشَّمع والضَّوء، وهي تشعر بفرحة غامرة، وسعادة كبيرة لا تتسع لها.. ثمّ تمُدُّ يدها في كوَّةٍ موجودة على جدار القبر إلى الداخل، وتُخرجُ بعض فُتات التراب، وتأكلُ منه قليلا، وتعطيني قليلا منه لآكله.. كانت تحثُّني وتشجِّعُني على التهامه، لأنه – كما تعتقد- مكنوز بسرِّ جدها الّذي جاء من حضرموت ليحطَّ به الرِّحال والأجل هنا، ربّما فقيها وعالما وصاحب “كرامات”..
ما زلت أذكر أمي وهي تشجعني وتحثني على أكل التراب، بل وتبدأ هي بالتهام بعضه.. تُلحُّ بإصرار أن ألتهم حصتي منه.. تحاكيني وهي تفعل لأفعل مثلها.. تطلب مني أن أفعل ما تفعله.. تفعل معي كما تفعل الأم مع طفلها وهي تُطعِمه بعد الفطام.. كانت تحاول إفهامي جاهدة – وأنا ألفَحُ التراب – أنني سأخرج من المكان وقد تزودتُ بشيء لم يكن موجودا حال الدخول إليه..
ورغم فقداني للذَّة التراب الذي كنت معتادا عليه، وأعاني من عقوبة التهامه، ورغم فقدان هذا التراب لنعومته، إلا أنّ روحانيّة المكان، وهيبته، وجلال المقام، و”كرامات” صاحبه بحسب روايات أمي، وما تفيده من محامد ومكارم جدها، وما يحمله من سرٍ جديرٍ بالاهتمام، أو هذا ما كانت أمي تلقّنني إياه حين ذاك، وترويه لي بثقة عالية ويقين لا يتزحزح..
كنت إذا تعرضت لمرضٍ أو مكروهٍ تدعو جدها “الشيخ حيى” وجدتها “جنوب” من جهة أمها، ومعهما جد أبي “الشيخ أحمد”، وتزيد أحيانا “أحمد ابن علوان” و”شاغث” أن يشفوني ويحيوني ويجنّبوني كل شر، ويزيلون عني كل مكروه..
كنت أظنُّ وأنا طفل أنّ هذا التراب الذي ألتهمه هو من بقايا عظام ورفات جد أمي، ولكن في مرحلة متأخرة أدركت أنه من فوق القبر، لا من جوفه، وأن رفاة جد أمي وبقاياه مازال مدفونا بعمق القبر والمكان.. ورغم اعتقاد أمي بالمفعول السحري لتراب جدها، إلا أنني لم أجد طعمه بلذاذة التراب الذي اعتدت أكله أو تعوّدت عليه، وكنت ألتهمه سرا وخِفَيةً عن أعين أمي..
ومثلما تُلحُّ أمي على أكل تراب جدها، كانت تفعل معي أيضا مع شرب الحليب.. ما أن أنتهي من شرب كمية منه، ترجوني بإلحاح وصوت خفيض على أن أزيد ” اشرب.. زيد اشرب.. زيد اشرب.. اشرب مليح .. اشرب يصح بدنك”.. وصوتها الخفيض كان كمن لا تريد أن يسمع أحد ما بيننا، وتظل تحاول وتحاول أن أشرب المزيد حتى تيأس من أن أعيد.. كانت تحبني أكثر من أبي، وتؤثرن عليه في كل شيء، حتى في الحليب الذي كان يتناوله كل مساء..
كانت أمي تمارس إلحاحها، وتحملني على شرب المزيد من حليب البقرة، فأشعر أنها تريدني أكبر وأقوى بسرعة.. تريدني أكبر وأشب بسرعة قبل الأوان.. وربما شعرتُ وهي تُلحُّ إنها تريدني أن أكبر في الحال.. أمّا أكل التراب من على القبر، فكانت تعتقد أنها تودعني سرَّ جدها، وتقيني من كل مرض وشر ومكروه..
لم يكُنْ يُغريني حليبُ البقرة، بل كان حليب “النيدو” هو الذي أروقه ويروقني؛ ربما لأنه كان بعضا مني، وكان يسُدُّ حاجتي، عندما كان لا يكفيني ضرع أمي التي تعاني، وأنا ما زلت دون عمر السنتين.. وما زلت إلى اليوم أشتهي أن أكرعه في فمي بكميات كبيرة، كما كنت أفعل هذا في سنِّ الطفولةِ وسنِّ المدرسة، بل والمراهقة أيضا، حتى أبدو أمام نفسي شخصا غير طبيعي، وأنا العط فيه بنهم شره..
حالما كنت طفلا في السنة الأولى مدرسة على الأرجح، رأيت رؤيا، وفيها أنني أمَمْت النّاس بالصلاة في المقام، ورأيت “الشيخ حي” وأشياء أخرى، نسيت تفاصيلها، رغم أنّ الرُّؤيا كانت – يومها- كفَلقِ الصُّبح من حيث الوضوح والتفاصيل، بل كأنّها كانت حقيقة لا رؤيا..
أمي وأبي كانا مهتمَينِ على غير العادة بهذه الرّؤيا، ويطلبان أن أُعيدَ روايتها على مسامعهما، وأشاهد سرورا دافقا واهتماما لافتا منهما بما أرويه.. ربما فهموا من الرؤيا أنّها تتعلق بمستقبلي البعيد، غير مدركين أنّ المستقبل في اليمن سيكون للفساد والقتلة والمستبدين، بل والمعاتيه أيضا.. والأهم أنني طيلة هذا العمر المديد ظللت متماسكا أحذر السُّقوط، وأحذر من السُّقوط المُريع مرتين وألف..
***
(8)
غموضٌ واعتقادات..!
علاقةُ أُمِّي بجدودها الأولياء وطيدة، واعتقادها بهم يبلغ حدَّ اليقين، فهي تدعو الله، وتستنجد به، دون أن تنسى جدودها الذين خَبِرتْهم مرارا، وصارت تثق بهم، وتعتقد جازمةً أنّهم يساعدونها.. عندما تريد شيئاً منهم تنذِر، وتنطِّع الشّمع، وربما تُطعم فقيرا، وتذبح ماشية إن كان الأمر يسمح، أو هنالك خَطْبٌ جَلَل يستحقُّ الذبيحة.. واستمر هذا الاعتقاد لديها حتى وفاتها عام 2017 وربّما أرجع بعضنا السبب إلى ما يسمى “قانون الجذب”، أو شيئا منه أو مثله..
وفي الأحلام كانت أمي تقول إنّها ترى جدودها يأتونها في المنام، ويخبرونها بأشياء تتحقق، أو تقع في قادم الأيام، سواءً كانت مُفرِحةً أو فاجعة.. أذكر أنها قالت لي في إحدى المرّات: إنّ جَدَّتَها “جنوب” جاءت تخبرها في المنام، إنه سيحدث (أمر جلل) وتحقَّق ما قالته خلال أيام قليلة، وكما وصفته بالمعنى المليء دون غموض أو التباس.. لقد كان حُلْما أشبه بالحقيقة، أو برصاصة أصابت الهدف في الرأس أو المنتصف، دون انحراف بقدرِ شعرة..
عندما كنت معتصما، ومُضربا عن الطّعام مع الجرحى في مُحاذةِ سُور مجلس الوزراء، في مطلع العام 2013 كانت أمِّي تدعو الله أن يساندني، ويقف معي، ويقف مع من يقف معي.. كانت تدعو جدودها الأولياء أن يكونوا إلى جانبي في المحاذير، ويُنجوني من المخاطر، ويحضروا معي في كل ملمّة ونائبة.. كانت تأخذ بعض الأوراق النقدية (فئة ألف ريال)، وتُسبعها في الماء، وتقرأ عليها القرآن، وتنذرها للمساكين والمحتاجين، وهي مطمئنة إلى ما تعتقد، وتدّعي أنّ ما تفعله كفيلٌ بأن يحفظني من شُرور البشر، والتي تعتقد أنّ شرورهم، ربما تفوق شرور الشياطين.
أمّي وبحسب ما ترويه هي أيضا، عندما تضيق بها الدُّنيا وتشتد، أو يكون هنالك أمرٌ جَلَل، أو فعل أو قول يؤذي مشاعرها على نحو حاد، أو ما شابه ذلك مما قد يحدث، فتشعر بشيء يبدأ يتكوَّر في صدرها، ثم يكبر كالكرة، ويظل يكبر حدَّ الامتلاء والفيض، ثم تشعر بشعاع يخرج من رأسها، ويرتعش جسدها كـ “طُبيْلة” المجاذيب، أو كأنّ شيئا يتلبسها وبما يخرجها عن طورها، ولا تهدأ ولا تستكين إلّا بعد أنْ تقوم بإفراغ ما في رأسها وصدرها من طاقةٍ بنَطْحِ الجدار.. نطحا قويا ومتتابعا، ومثيرا للدّهشة.. وتجعل من يشاهدها يبدو مشدوها وغارقا في الذُّهول.. ما تفعله كان أكبر من الانتحار والجنون، وكأنَّها تأخذ حقَّها من الجدار مرتين وثلاث.
في إحدى المرات تدخَّلتُ بجُرأة، ومسكتها بقوة، وأبعدتها عن الجدار، للحيلولة دون مواصلتها لنطحه، بدوافع مخاوفي، وبعد أن ظننت أنني سأشهد حطام رأسها متناثرا على الأرض، أو مهشوما كالزجاج، فيما كانت هي تعيش غمرة ما تفعله، وفي لحظة ذروته..
كان الجدارُ من حجَر الجبل الصّلد، والشّديد في صلابته وتحدّيه، وعلى نحوٍ راعني، حتى خشيت على رأس أمي، ولم أكن أعلم أنّ منعها من استمرار فعلها، يؤذيها على نحوٍ لم أكن أتخيّله.. انفجرت أمي بالبكاء الشديد، وبحرقة لاسعة، وعتاب مملوء بالخيبة، لم أعهده في حياتها من قبل وهي تقول لي: (عثرتني.. عثرتني.. عثرتني) .. ثم مرضتْ عدّة أيام.. ومن بعدها كنت أتركها تؤدّي طقسها مع الجدار كيفما تريد، وعلى النحو الذي يروق لها، حتى تنتهي منه، وتهدأ كبالونه فُتح ما يسد بابها..
ظلّ نطحُ الجدار يحدث مع أمي حتى آخر شهرٍ في حياتها، وقد قارب عمرُها على الأرجح الثّمانين عاما.. وفي السنوات الأخيرة من عمرها حالما كان يحدث معها مثل هكذا فعل، صِرنا نتوّقع قدوم ما هو سيِّء.. نقرأه كإحساس منها، لا تستطيع أن تعبّر عنه، إلّا بتلك الطريقة الغريبة..
لقد أحاطني يوما الخطر، وأُصِيبتْ أمّي بنَوْبةِ هَلَع، وردَعتْ الجدار أكثر من مرّة، ولم تنته ممّا هي فيه إلّا باتصالي التلفوني العاجل، الذي هدّأ من رَوعِها، وأوقف نوبتها الجنونية.. شعرت يومها أن حميميّتنا أكبر منّا، وأنّ هناك صلة روحية قوية بيننا، أو شيء استثنائي مختلف، وربما هو إحساس غريزي قوي من الأمّ بما يتهدّد ابنها من خطر، والذي تحبّه كثيرا، بل أكثر من نفسها، ومن إخوته..
كانت تقول لي: أسأل الله أن يأخذ ما بقي من سنين عُمْري، ويُطيلُ بها عمرك.. فطال عمرُ كلانا.. فقاربت هي من عمر الثمانين، وأنا أقارب الستين.. وقبل أن تموت لم تكن تسمع غيري، ولا تنفِّذ إلا طلباتي، حتى وإن كانت كرها عليها..
عندما أشتدّ عليها مرض الموت، كانت تؤثر الموت على أن تأكل أيَّ شيء.. فإذا طلبتُ منها أن تأكل، استجابت وغصبت نفسها عليه، وعلى نحو أشعر أنَّ ما تفعله، لتنفيذ ما أطلبه، هو بقسوة الموت وطعمه، ثُمّ أتفاجأ بعودة ما أكلتْه بعد ساعة، وكأنّه كان مختبئا في مكان ما بفمها، أو شدقها، أو بلعومها.. يعود ويخرج من فمها كما دخل، دون تغيير، بعد أنْ كنتُ أظنُّ أنَّه قد استقرَّ في مِعدتِها، أو ذهب إلى ما بعدها..
لقد تعلَّقتُ – كطفل – بأمي حتى آخر يوم في حياتها، وقد قاربتُ الخُطى نحو الستين.. كنت أُؤْثرُها على جميع من يعيشون معي، بل وعلى نفسي، وكنت أنحاز للانتصار لها، غير مُكترثٍ لما يصيب غيرها..
كانت أمّي هي الخَيارُ الأوّل دوما، والّذي أؤْثِره وأفضّله على كل الخيارات.. فإنْ انفعلتُ حيالها في لحظة توتُّر قُصْوَى ونادرة، فما ألبثُ أنْ أعتذرَ لها بندمٍ شديد، وقد أشعرتني إن فُسحة قلبها جنّة ليس لها مثيلٌ في وسعها، وغفرانها لا ينتهي..
كانت أمي ما أنْ تفرغَ من نَطْح الجدار، حتى تهدأ وتستريح.. فإن لم تهدأ، تعاود الأمر مرّة أخرى، فتهدأ وتستريح.. فقط عندما أحاطني الخطر، كان الأمر معها أشبه بنوبة لم تهدأ منها أو من رَوْعها إلا باتّصالٍ منّي والتّحدث معها.. لقد كانت تجزم وتُلحُّ أنّني في لحظة خطر مُحدِق وأكيد، وكان الحال كذلك، وقد أوشك الخطر على الوقوع، ولم تنقذنِي منه غير دقائق قليلة.
مشاهدُ متفرِّقة وكثيرة، لا عدَّ لها ولا حصر، شاهدتُها وهي تنطح الجدار.. كانت تستعد وتهرول وتنطحه ثلاثا وأربعا وعشراً.. هذا الأمر لم أجدْ له تفسيرا علميا إلى اليوم، ولم أفهمه إلا بأنَّه خارقٌ للعادة، وبكل تأكيد.. فهي لا تجيد الكذب والمخادعة وخفة الحركة، ولم يسبق لها أن عملت في مسرح عرض ولا سِرك أو بهلوان..
وهذا لطالما ذكّرني بمشاهد أخرى رأيتها بأم عيناي عندما كنت طفلا.. شاهدتُ أناس غرباء يطوفون البيوت سيرا على الأقدام، ويقومون بـ “الجذب”، مقابل بعض العطايا البسيطة، جلّها كان من الحبوب دخنا أو ذرة أو شعيرا أو نحوه.. كنّا نسميهم “مجاذيب احمد ابن علوان” رأيت فيهم من يخرج عينه من محجرها بالجنبية، ويبقيها معلقة لبرهة، ثم يعيدها إلى موضعها، ومن يطعن بطنه بصورة متكررة وأماكن أخرى من جسده بخنجر أو عطيف أو “جردة” وهي أصغر من السيف..
وكان المشهد الأكثر إثارة ورسوخا في ذاكرتي إلى اليوم، هو ذلك الرجل الأربعيني من العمر على الأرجح، المائل لونه قليلا إلى السمرة، وكانت صلعته واضحة جدا، وتمتد من مقدمة رأسه إلى بعض قفاه.. كان يبدأ يقرع ما نسميها “الطبيلة” تهيئا لما سيقوم به، ويرتعش جسده وكأن شيئا ما قد تلبسه.. ثم يطعن بالجنبية أجزاء متفرقة من جسده..
غير أن الأكثر دهشه وبقاء في الذاكرة أنه كان يضرب وسط صلعة رأسه بالجنبية مرة وثانية وثالثة، ويتركها في الضربة الأخيرة ناشبة في صلعة رأسه، وقد أبعد من مقبضها بكلتا يديه، ثم يدلي لنا رأسه من عنقه، ليرينا الجنبية الناشب نصفها في صلعته اللامعة، وليثبت لنا يقين ما نشاهده بأم عيوننا.. وبإمكانك أن تمعن النظر مليا، لتتأكد أن ما تشاهده حقيقة جلية لا خفة فيها ولا بهلوان.. وتظل عيوننا مشدوهة ومعلقة بذهول فيما نراه، ثم يعلق المشهد بالذاكرة إلى آخر العمر، دون أن يساورنا فيما رأيناه شك أو احتمال..
هنالك كثيرا من الاعتقادات الغامضة ما زلت أذكرها إلى اليوم.. كان أبي إذا خرج ليلا وأصابته شوكة يعود من الطريق معتقدا أنَّ شرا سوف يصيبه إذا تجاهله أو تغافل عنه.. يبدو أنّه خَبِر ذلك بعد تجربة طويلة.. وربما هو إعمالا بالمثل الذي كان يردده: “إذا دقفت اجزع وإذا شوكت ارجع” فيعمل به إن حدث هذا معه ليلا، وربما أيضا نهارا، حسب ما علمتُ لاحقا..
أنا وخالتي (سعيدة) زوجة أبي كنّا إذا حدث أن أنملت أو بالأحرى “سيّرت” بطن أو قاع قدم أحد منّا، يصل أخي علي من صنعاء، أو يَهلُّ علينا ضيف نحبّه، وإذا “حفّت” يدُ إحدانا نستلم نقودا، أو شيئا يفرحنا، أو نصافح كريما، أو ضيفا يُبْهجُنا.. ومازال هذا يحدث معي أحيانا إلى اليوم.. لقد كان لنا حدسا وحواسا يقظة، ولم يعُدْ منها اليوم غيرُ أطلال، أو بقايا أقلّ من القليل.
***
(9)
عِنادٌ وسلطة..!
في صغري كنت مُغرماً بأكل التُّراب.. يا إلهي كم كان التراب شهيّا ولذيذَ المَذاق!! والأكثر لذاذةً أنْ أفعلَ هذا في السِّر والخفية، بعيدا عن أعين أمي.. كانت أمي ما أن تكتشف الأمر، فتسارع إلى ضربي حتى قبل أن تُخرِجَ التراب من فمي، وأحيانا يتأخر العقاب إلى لحظة انكشافي بعد حين لا يطول.. ومع ذلك وما أن أجد الفرصة ثانية حتى أكرر الفعل المشبوب بالعناد.. ويتكرر الضرب، ويتكرر العناد ولا أتوب..
“السُّلطة السياسية” لا تشبه أمي بكلِّ تأكيد.. فما فعلَتْه أمي كان دون شكٍ بدافعِ الحبِّ الجَمْ لضناها الذي تحبه أكثر من نفسها، وبدافع الخوف الهلع على صحته التي تأثرها قطعا على صحتها.. أمّا ما تفعله “السُّلطة السياسية” فلا علاقةَ له بأيِّ حب، ولا صلةَ له بالصحة، أو ربما بما هو حميد، بل يتم بدوافع الإخضاع والتَّدجين، وربما الاستعباد.. إنّ المقارنة أحيانا تكون ظالمة، وربّما تبدو في عَتهِها إهدارا للعقل، ولاسيّما عندما يكون فارق المقارنة بينهما خُرافي ومهول..
ربما يبدو المتشابه بين أمي و”السلطة السياسية”، في استخدام القمع.. ولكن الحق يمنع حتى التأفف من الأم، مهما بلغت بها الكهولة، ومهما بلغنا من السلطان، بل والواجب علينا احترامها وإكرامها بالخٌلق العظيم.. فيما “السلطة” تقمع الشعب وتستبدُّه.. صحيح أن كلا منهما تقمع في إطار ولايتها، ولكن “السلطة السياسية” التي بدون مشروعية قد جاءت عن طريق الغلبة والاغتصاب، أو بالمخاتلة والتحايل.. أما أمّي فمشروعيتها من مشروعية وجودي في المقام الأول.. غير أنّ السؤال الأهم: لماذا نتمرّد على الأم، وهي الأحق بالطاعة والإذعان، ولا نتمرد على “السلطة” ـ أي “سلطة” ـ طالما هي ظالمة ومستبدة؟!!
صحيح أنّ أمي و”السلطة” تشتركان في وجه من الجهل، وهو قياس مع الفارق، ولكن جهل أمي له ما يبرره، وهو جزء من واقع، تقع مسؤولية تغييره على “السلطة” أولا؛ والتي يجب عليها أن تناهض الجهل وتقوضه، فما البال و”السلطة” تعمد إلى تكريسه، ليس في الحضانة والتنشئة الأولى فحسب، ولكن أيضا في المدارس والجامعات، وتعوِّل عليه في سياساتها إلى حدٍّ بعيد..
“السُّلطة” تعتقد أنّ القمعَ هو الخّيار الوحيد، أو الخيار الأول، للحصول على نتائجَ فوريّة، ولكنّ كثيرا ما تأتي النتائج صادمة، أو مخيّبة للآمال، والأسوأ أنّ “السلطة” تُعاند وتُوغِل في عنادها حيال شعبها، ولا تعترف ولا تقرُّ بما تقترفه من أخطاء، إلّا بعد أن تكون قد دفعت كلفةً أكبرَ من الخطأ بفعل عنادها، ويكون قد أوقع الفادح ما هو أفدح منه..
***
تبالغ “السُّلطة السياسية” وجماعتها الدينيَّة الموغِل ذهنها في الماضي بتعصبها لصالح المجتمع المغلق الصارم في عاداته وتقاليده وثقافته، بل وتستعرض اعتزازها بهذا الانغلاق، وتعمَد إلى فرضه وتكريسه، تحت عنوان الحفاظ على العادات والتقاليد الأصيلة للمجتمع، وباسم الأصالة يجري التحصين والتأكيد على الماضي، وعلى كل ما هو بائد ومتخلّف ومُهترئ، ويكون ذلك على حساب المستقبل الّذي نروم..
تعيش “السلطة” وجماعتها الدينية حالة تناقض وانفصام تام، وعدم تصالح فجٍ مع ذاتها، حيث تتزمّت في أخلاقها، وتُمارسُ عُقَدها على المجتمع، وتتشدّد حيالَ التفاصيل الصغيرة، فتقمع المرأة الّتي لا ترتدي حجابا، وتتعامل بصرامة حيال من ترتدي حزام الخصر، وتعتدي على إعلانات الكوافير الذي تعتبره انفلاتا سحيقا، وسقوطا أخلاقيا مريعا، وبالتالي تتحول السلطة في أحد وجوهها إلى شرطة آداب حازمة حيال القضايا التي يتبناها تزمتها، مثل موقفها من حقوق المرأة، وحريّاتها، والاختلاط، والموضة، وملابس الشباب، وحلاقة رؤوسهم، وتضيف إلى ذلك ما هو فضفاض، مثل “الحرب الناعمة” التي تُدرج فيها كلَّ ما يروق لها، أو تريد قمعَه وتحريمَه وتجريمَه تحتَ ذلك العنوان غير المُنضبط..
وبالمقابل تتخلَّى تلك “السلطة” وعلى نحوٍ صارخ، عن مسؤوليَّاتِها حيالَ مواطنيها فيما هو أهم، مثل التخلي عن مسؤولية دفع رواتب الموظفين، وعدم تأمين الصِّحةِ لمواطنيها، والَّتخلِّي عن التزاماتِها حيالَ مُعظمِ الخدمات أو الحقوق، ومنها التعليم فضلا عن الرُّقي به، بعد أن تكون قد أفسدت معظمه..
الاحتشام لدى سُلطةِ الجماعة الدينيَّةِ ليس صناعةَ وعي، ولكنَّها شكليات تكرِّسُها وتتعاطى معها بصرامة.. خيمةٌ سوداء، ثقيلةٌ وعمياء، وعُقد اجتماعية شتّى، وكبْتٌ وتضْييق، وإعادة إنتاج نفايات الفكر، والتصوُّرات البالية، وطباعة الكتب والمنشورات الصفراء، وغيرها من الأحمال والأثقال التي يجري إلقاؤها على كاهل المرأة ومحاصرتها بها..
وتُعتبر السُّلطةُ المأزورة بالواقع الظلامي الثقيل، إنّ الوِصايةَ على أخلاق المجتمع، والتَّضييق على الحريَّات الشخصيةِ والعامة من أولويَّاتها ومُبرِّرات وجودِها، فيما هي تتخلَّى في المُقابل وبالتقسيط أو نظام الدُّفَع، عن كل المسؤوليات التي كان يتعيَّن عليها النهوضُ بها، وهي من صميم عملها وواجباتها..
وهكذا تجد “السُّلطة” وجماعتها تتحول إلى شُرطة آداب، تحمي “الأخلاق” وتفرض وصايتها على الناس باسم المقدس، بدلا من خدمة شعبها، وتحسين مستواه الاقتصادي والاجتماعي، والثقافي، والعلمي..
***
الواقع مشوّهٌ وموبُوءٌ بأمراضنا، وعُقدنا، وعنادنا المدمِّر للآخر وللذات.. عنادا بدأ معنا منذ نعومة أظفارنا، وكبُر معنا، وربّما يظل عالقا في أعماقنا حتى أرذل العمر – إن بلغناه – كما أنَّ التربيةَ غير السويَّة في مجتمعنا، تبدأ معنا من الحضانة، وتستمرُّ رعاية التشوُّهات في فترة التنشئة والمراهقة، حتى تبلغَ العظمَ والصميم، ويتعدَّى أذاها من الشَّخص إلى المجتمع.. سلطة جماعة تحتقر الأغنية، وتتهم الشعر، حتى وإنْ تصالح فيهما الإنسان مع نفسه، بل وتحوُّله باتهامها إلى شيطان، واجبٌ عليها اجتثاثه وعيا وممارسة، حتى وإن كان زاهدا..
توغل “السُّلطة” في عنادها عندما تحتشد كلُّها، وما لديها من أجهزةٍ ومالٍ، ونفوذٍ، وإعلام، ووسائلَ قمعٍ في ممارسة إخضاع أسرة بسيطة مثل أسرة “إقبال الحكيمي”، لمجرد أنّ “إقبال” وأسرتها قرروا – يوماً – المطالبة بوقف الجرائم التي تُرتَكبُ ضِدَّهم من قبل رجال “السلطة”، وفضح ما تمارسه من طغيان، ومطالبتهم بوقف تلك الجرائم، ومقاومة الظلم الواقع عليها وعلى الناس.. وتُوغِلُ السُّلطةُ بمزيدٍ من العِنادِ وتلفيقِ التُّهمِ ضدَّ أسرةِ “إقبال” وتزجُّ بها في سجونها، بل وتتعدى على كلِّ من يساعدهم أيضا؛ لتُداري جرائمها الفِجاج، وتحول دون كشفها، وهو عناد أخرق منها، وغير مسؤول، سيتكفل الزمن بكشف ما يُدارى، وإسقاط عنادها، ومعه كل سياسات التّدجين والإخضاع التي تمارسها بعنفوان..
إنّ العناد الّذي نكتسبه، أو الذي نتطبًّعُ عليه، يمكن أن يتحوّل إلى قوَّةٍ تدميريَّةٍ تُهلك المُعاند نفسَه، وتُهلك من حوله، وربّما تمتدُّ آثارُه إلى المجتمع.. الانحراف بالعناد يدمِّر الآخر ويدمِّر الذَّات.. يدمِّرُ المجتمع ويدمِّر صاحبَه أيضا.. كما أنّ الاعتماد على سياسة القمع والإيغال والعناد فيها، لن يأتي إلّا بكلِّ ما هو بائتٌ ومشوّهٌ وغيرُ سوي..
إن أخطأتَ في البيت تُضرب، وإن أخطأتَ في المدرسةِ تُضرب، بل إنَّ الضربَ هو إحدى العقوبات المهمة حتى في تشريعاتنا، وأكثرُ من هذا أنّ السّياسةَ العقابيَّةَ في تشريعاتِنا المثقلةِ بالوَجعِ والرُّكام، لا تقوم على أساس إصلاح الجاني، وإعادة تأهيله؛ ليندمج في المجتمع، بل تقوم على أساس الانتقام بالعقوبة من الجاني.
من الأجدى والأنفع أن نحوِّل عنادَنا إلى تحدٍ يُنتجُ طاقةً خلّاقةً كبيرة ومبدعة، تُثري العلم والمعرفة، بما يخدم الناس والعالم خيراً وفضيلة ورخاء.. كثيرٌ من العلماء المخترعين والمكتشفين، وعظماء التاريخ عملوا على تطويع عنادهم وتوجيهه على نحوٍ خلّاقٍ في خدمة الناس والبشريَّة؛ فاكتسبوا العظمة والخلود، فيما هناك كثيرٌ من مجرمي التاريخ وسفاحيه – بسبب عنادهم وتصلب رأيهم – أهلكوا النَّسلَ والضِّرعَ بحروبهم .. أهلكوا أنفسَهم وشعوبَهم..
أما أنا فأحاول أن أحوّل الابتلاء بالعناد الذي يسجِّل لديَّ بعضَ حضوره، إلى طاقة خلَّاقة وموقف مساندٍ للمظلومين، والدِّفاعِ عن حقوقهم المنتهكة، والتّصدِّي للسُّلطةِ الَّتي تعمَدُ إلى قهرهم وإذلالهم، وتدجينهم، وإخضاعهم لها ولجبروتها.. أو هكذا أزعم.
***
يتبع..